السياسات، البراهين، البحوث، البحث العلمي،
يأتي موضوع هذا الكتاب في سياق عمليات التحديث والتطوير الشاملة للأنظمة واللوائح والإجراءات والبرامج التنموية الحكومية، والتي تؤثر بشكل مباشر في التحولات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والثقافية والصناعية والزراعية وغيرها، وتسهم في مجملها في إعادة تشكيل المملكة العربية السعودية لتتبوأ المكانة اللائقة بها في شتى المجالات.
وحقيقة، لم يسبق أن مرت المملكة بثورة في مجال تطوير السياسات التنموية ومعالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية بأسلوب علمي مثلما يحدث الآن، حيث كانت رؤية المملكة 2030 المنطلق الرئيس لتطوير الكثير من السياسات التي كانت عصية على التغيير والتطوير طيلة العقود الماضية.
هذه الثورة في تطوير السياسات والبرامج والمشروعات الحكومية تتطلب ثورة علمية مصاحبة تقودها الجامعات ومراكز الفكر لتطوير أدوات ومنهجيات بناء السياسات، وتنفيذ السياسات، ونشر السياسات، وتقويم أثر السياسات على الفرد والمجتمع. فتطوير السياسات علم وفن، فمن جهة، هو علم له أصوله وقواعده ومنطلقاته، ومن جهة أخرى هو فن يحتاج إلى مهارات في التخطيط، ومهارات في الاتصال والتواصل والإقناع والتأثير، ومهارات في الصياغة والتحرير، ومهارات في العرض والنشر، ومهارات في التحليل والتقويم.
ومع أهمية موضوع تطوير السياسات إلا أنه لم يحظ بالاهتمام الكافي من الجامعات ومراكز البحوث في المملكة والوطن العربي، بل إن المؤسسات العلمية تكاد أن تكون غائبة عن مشهد المبادرة والتأثير في مجالات تطوير السياسات التنموية والبحوث الموجهة نحوها، فضلا عن ندرة المؤلفات العربية والترجمات المتخصصة في هذا المجال. ومن هنا فقد بدت الحاجة إلى تأليف هذا الكتاب الذي يسلط الضوء على موضوعين مهمين لنجاح عمليات تطوير الأنظمة والإجراءات والبرامج الحكومية وهما: السياسات المبنية على البراهين والبحوث الموجهة نحو السياسات، وهذان الموضوعان يكمل أحدهما الآخر لتحقيق الأهداف التنموية وازدهار الأوطان ورخاء الشعوب.
وقد حرصت في هذا الكتاب على جعل تطوير السياسات أمرا مقبولا بل محببا للباحثين، ومطلوبا من صانعي السياسات استنادا إلى البراهين المقنعة. فالسياسات التنموية لن تكون فعالة وذات أثر بليغ ما لم تكن مبنية على براهين لتبدو مؤشرات آثارها الإيجابية واضحة وظاهرة علميا ومنطقيا، وهذه البراهين لا يمكن الوصول إليها من غير البحث والدراسة والتحليل والتقويم والتجريب، وهذه ليست مهمة المؤسسات الحكومية، بل مهمة الجامعات ومراكز البحوث والرأي التي تزخر بالكفاءات العلمية من الباحثين المتمرسين. ولأن تطوير السياسات المبنية على البراهين يتطلب تفاعلا وتعاونا بين عدد من الأطراف فقد جعلت أحد أهداف هذا الكتاب ردم الفجوة بين صانعي السياسات وبين الباحثين لمساعدة صانعي السياسات ومتخذي القرار على إصدار قرارات وتشريعات تخدم المجتمع بطريقة علمية ومنهجية تزيد من رصيد ثقة المجتمع في حكومته، وتزيد من رصيد ثقة صانع القرار في سياساته.
ويعالج هذا الكتاب بطريقة مبسطة وميسرة التعريف بالسياسات وكيفية صنعها واستفادة صناع القرار منها، وكيف يتم بناء سياسات تنموية جديدة معتمدة على البراهين، واستعراض أهم التجارب الرائدة في تطبيق السياسات المبنية على البراهين، ومفهوم البحوث الموجهة نحو السياسات، وخصائصها وتحدياتها ومراحل إعدادها، وكيفية استفادة صناع القرار من البحوث الموجهة نحو السياسات، وتطبيق طرق تحليل السياسات بهدف وضع إستراتيجيات وبرامج ذات أثر فعال. ولأهمية الأدوات التطبيقية في نجاح مشروعات السياسات فقد خصصت الفصلين الأخيرين لتوضيح كيفية كتابة أوراق السياسات وملخصاتها التنفيذية والتعريف ببعض النماذج المعينة على تطوير السياسات والتواصل مع المستفيدين وصانعي القرار.
راجيا أن أكون قد وفقت في تسليط الضوء على هذا الموضوع المهم الذي يستحق المزيد من الدراسة والبحث والتحليل والتطبيق، ومؤملا أن يكون هذا الكتاب منطلقا للعديد من المؤلفات والبحوث العربية التي ترتقي بهذا العلم وتسدده ليحقق أهدافه المنشودة.
وختاما، فإني أقدم شكري وامتناني لأصحاب السمو الملكي الأمراء والمعالي الوزراء والمسؤولين الذين تشرفت بالعمل معهم وكان لهم دور وفضل، بعد فضل الله، في صقل خبراتي وتنمية مهاراتي في مجال تطوير السياسات التنموية والبحوث الموجهة نحوها، والشكر موصول لكل من ساعدني بجهده أو فكره ليرى هذا الكتاب النور بعد سنوات من التفكير فيه وجمع معلوماته، فإن كان من توفيق فمن الله، وإن كان من نقص أو خطأ أو خلل أو سهو أو تقصير في التوثيق أو الترجمة أو التحرير فالمرجو مساعدتي على تصويبه.
والله الموفق والمعين، والحمدلله رب العالمين.
أ.د. صالح بن عبد العزيز النصار
الرياض، محرم 1441هـ