في مدرسة المشي، ماذا تعلمت؟
أ.د. صالح النصار
عضو مشاة جامعة الملك سعود
مؤسس مشاة سدير
في مدرسة المشي تعلمت أشياء كثيرة لم تخطر لي على بال، فوائد وخبرات لا توجد في الكتب ولا الفصول الدراسية ولا القاعات الجامعية. أعطيت المشي القليل فأعطاني الكثير، أحببته فأحبني، إذا خرجت أمشي أشعر وكأنني أسير حرر من قيوده، أو محروم خرج من عزلته الطويلة ليستمتع بلفح الشمس وقرص البرد ولسع الريح. أصبح المشي عادة محببة تمنحني شعورا متزايدا بالامتنان والشكر لخالقي الذي أكرمني بهذه النعمة.
ما هو تعريف المشي؟
في أول أيامي في هذه المدرسة سألت عن تعريف المشي؟ فأجابتني ريبيكا سولينت في كتابها تاريخ المشي: “المشي، هو تلك الحالة التي يندمج فيها العقل والجسد والعالم، وكأنهم ثلاثة أشخاص يتحاورون، ثلاث نعمات اجتمعت، وفجأة، شكلت مقطوعة جميلة، المشي يسمح لأجسادنا أن تكون في العالم دون أن تنشغل به، يمنحنا الحرية لنفكر دون أن نضيع تماما داخل أفكارنا”.
في مدرسة المشي الكتاب الوحيد المقرر هو المشي، تعلمت منه الكثير حول جسمي؛ إمكاناته، قدراته، حدوده، وحول حواسي التي صارت أكثر إرهافا، ومشاعري التي غدت أكثر رقة، وتفكيري الذي أصبح أكثر نضجًا. المشي كتاب مفتوح لا ينفك من مفاجأة قرائه بكل جديد ومفيد، ولذا، فإن المشاة لا يملون من قراءته، ولا يسأمون من مجالسته، ولا يتنازلون عن اصطحابه إلى أي مكان يذهبون أو يسافرون.
ماذا تعلمت من المشي؟
في مدرسة المشي تعلمت كيف أعالج نفسي بنفسي، المشي (ترمومتر) الصحة يكشف عن علل الجسم ويعالج أكثرها. واسألوا المشاة كيف تغلبوا على أمراض العصر وقاوموها، وكيف اكتشفوا أمراضاً وعللاً لم تكن لتظهر لولا مقاومة الجسم أثناء المشي. الخروج في الهواء الطلق والمشي في الطبيعة يزيدان من مستوى التناغم والالتحام بين الروح والعقل والجسد لتشكل مجتمعة قوة لا يستهان بها في مواجهة الأمراض النفسية والعضوية والبدنية.
علمني المشي وحيدًا كيف أستفيد من خلوتي، وأستمتع بوقتي، وأسيح في أفكاري، وأستذكر أورادي، وأتعمق في تفاصيل الأشياء؛ تفاصيل الشارع والأشجار والمحلات والبيوت والناس والطيور، وكل شيء من حولي، وجمال المعرفة يكمن في تفاصيلها…
وعلمني المشي في جماعة كيف أهتم بالآخرين، وكيف أستفيد من تجاربهم في المشي لبلوغ أهداف جديدة. في المشي الجماعي تذوب الألقاب والمناصب والأعمار، ويصبح المشي أيقونة الفرح والابتهاج، ويخرج المشاة أفضل ما لديهم من معارف وخبرات، أصبح المشي رابطًا لعشاقه المشاة، تتوثق صلاتهم بقدر ما يقطعون سويًا من مسافات المشي…
في مدرسة المشي تعلمت اكتشاف الجمال؛ جمال الطبيعة، جمال السماء، جمال البحر، جمال الناس، جمال شروق الشمس وغروبها. هذا الجمال يخلق فينا حالة من النشوة والارتياح فيلهمنا الذكر والتسبيح والاستغفار. آه، كم حرمتنا وسائل المواصلات من هذا الجمال الرباني المحيط بنا (فامشوا في مناكبها.. أفلا ينظرون.. أفلا يتدبرون.. أفلا يتفكرون..).
في مدرسة المشي تعلمت الكثير من الفنون؛ فن المشي وفن اللياقة وفن التنفس وفن الاسترخاء وفن الاستطالة، وفن التدبر والتأمل وإعمال الفكر وحل المشكلات. وتعلمت أثناء المشي فن الاستماع للمقاطع المفيدة والمقطوعات الجميلة، وفن إدارة الوقت وإجراء الكثير من الاتصالات ومناقشة الكثير من الأعمال التي لا يتسع وقت العمل لإنجازها، فكسبت الحسنيين المشي والإنجاز.
في مدرسة المشي تعلمت فن إدارة الضغوط النفسية وحل المشكلات الشخصية، ومن أراد أن يتأكد فعليه اصطحاب زوجته أو ابنه أو حتى صديقه في نزهة مشي لمناقشة موضوع شائك أو مشكلة عويصة أو أي أمر مقلق ليرى كيف تأثير المشي في تقليل التوتر وامتصاص نوبات الغضب وانشراح الصدر للحلول التوافقية.
أخيرا، في مدرسة المشي تعلمت فن التفكير واستمطار الأفكار، يقول نيتشة: “لا تصدق أي فكرة لم تولد في الهواء الطلق أثناء التحرك بحرية” ويعلق (جروس) على هذا الرأي في كتابه “فلسلفة المشي” بقوله: “الأفكار الطازجة هي وحدها تلك التي تولد خارج حدود الحوائط، حيث الأفق الممتد، وحيث الجسد يسير فتتدفق معه الأفكار في حيوية وانتعاش”. الأفكار تنام في السكون وتنحشر في الأماكن الضيقة لكنها سرعان ما تنشط وتتحرر عندما تحركها القدمان في خلوات الطبيعة. ومعظم أفكار هذا المقال كتبتها من خلال التعليق الصوتي مستمتعا بالمشي على ضفاف المحيط الهادئ من فينيس إلى سانتا مونيكا، أثناء حضوري دورة تدريبية، أكتوبر ٢٠١٩، والتجربة خير برهان.